في شهر أكتوبر من عام 2022 بدأت رحلتي في تقديم خدمة الإرشاد والتوجيه الفردي لصنّاع المحتوى، بالطبع قبل ذلك وعلى مدار سنوات من 2020 تقريبًا أقدم التوجيه، لكن لم يكن ذلك بصورة منظمة كما في الخدمة.
خلال هذه الفترة التي تخطت 15 شهرًا عملت مع 23 صانع محتوى. واليوم 17 يناير هو اليوم العالمي للتوجيه، لذا رأيت أنّها فرصة جيدة للحديث عن تجربة التوجيه، وما تعلمته من هذه التجربة.
البداية: لماذا قررت إطلاق خدمة التوجيه؟
الرحلة صعبة ومليئة بالتحديات. هل تتفق معي؟ جميعنا على اختلاف المستوى الذي وصلنا إليه حاليًا، واجهنا تحديات أو أسئلة نحتاج إلى الإجابة عنها، فلم نجد طريقًا أمامنا سوى البحث المستمر، أو التجربة لأوقاتٍ طويلة. المشكلة أنّ التجربة الشخصية على أهميتها وقناعتي الكاملة بها، فهي ليست الخيار المناسب في كل مرة. لماذا؟
في عام 2022 اجتهدت في مسألةٍ ما، وكانت النتيجة هي أنّ هذا الاجتهاد كلفني ما يزيد عن 250 دولار. بالطبع كان من الممكن توفير كل هذه الأموال إذا توجّهت لشخص متخصص. اكتشفت كل ذلك متأخرًا عندما تحدثت إلى خبير في هذه المسألة.
في الوقت ذاته لم تضف لي التجربة الكثير، فلا يمكنني القول أنني قد حصدت فائدة ما من التجربة، سوى قناعتي أنّه في المرة القادمة عليّ توفير وقتي ومالي والتوجّه لشخص خبير. وهذه هي المشكلة في التجربة أنّها تكلفك وقتًا طويلًا، أو لا تجعلك واعيًا بالخيارات الكاملة المتاحة لديك، مع وجود أسئلة غير مجابة عنها. وبالطبع لا ننسى الأموال المدفوعة في هذه التجربة.
حسنًا، لماذا لا نبحث عن الإجابات الجاهزة؟
هذه مشكلة أخرى، نحن نحيا في عصر التخصيص، فلا توجد إجابة صالحة لجميع المواقف. وفي كل مرة قد يُجاب السؤال بطريقة مختلفة تمامًا، حسب تجربة السائل وتفاصيله الخاصة.
بالتالي نكون بحاجة إلى وجود شخص موجّه Mentor قادر على التوجيه، بالطبع لا يعني ذلك الاتكالية الشديدة عليه، فهذا في رأيي ليس صحيحًا على الإطلاق، ولا يوجد شخص قادر على تقديم وصفة نجاح سحرية لك، أو اختصار طريقك في إجابة واحدة.
إطلاق خدمة التوجيه
وهنا كان قراري بإطلاق خدمة التوجيه لصنّاع المحتوى؛ في محاولة لاستثمار تجربتي في المجال لتقديم التوجيه لصنّاع المحتوى، فأنا أهتم كثيرًا بالأثر والمساعدة، وهي واحدة من رسائلي الأساسية في الحياة.
ولكن عندما قررت البدء في الخدمة، لم أرد تقديمها على هيئة لقاء وينتهي فقط، بل رأيت أنّ الأفضل هو تصميم برنامج يتكون من 4 لقاءات خلال فترة دورية محددة، لماذا؟
- أولًا: تتاح لي فرصة التعرّف بعمق على صانع المحتوى وتجربته والتفاصيل كاملة في أول لقاء، وهذا يمكنني البناء عليه في اللقاءات التالية، أو حتى لاحقًا بعد انتهاء التجربة بالكامل.
- ثانيًا: أعرف أنّ صانع المحتوى تكون لديه مجموعة مختلفة من الأسئلة التي يبحث عن إجابة لها، وتحديات كثيرة يحتاج إلى حلول لها، بالتالي لا يمكن فعل ذلك في لقاء واحد، والأفضل هو تقديم مجموعة من اللقاءات المتخصصة.
ومن هنا بدأت الخدمة رسميًا في شهر أكتوبر 2022، واستمرت حتى يومنا هذا.
ما الذي تعلمته من رحلة التوجيه؟
بالطبع تعلمت الكثير من التجربة، وأوجّه شكري لجميع صناع المحتوى الذين وثقوا في قدرتي على تقديم الدعم لهم، فقد أسعدني ذلك كثيرًا، وأتمنى أكون عند حسن ظنهم دائمًا.
وقد قررت في هذه الجزئية أن أتحدث عمّا تعلمته خلال تجربة التوجيه، لعلها تكون مفيدة لأي شخص يرغب في العمل بهذا المجال، ويبحث عمّا يساعده على المضيّ قدمًا في هذه الرحلة.
وجب التنويه لأنني سأتحدث عمّا رأيته فعالًا ويناسبني أنا، ربما لا تتفق معي في نقاط معينة، وربما تحتاج لوقت لاستيعاب مسألة ما، والأكيد أنّه يمكنك دائمًا إضافة لمستك الشخصية للمسألة.
وأنا أرحّب دائمًا بأن نتحدث معًا عن أي شيء إذا أردت ذلك. والآن هيا نتحدث عن التجربة؟
1. أمانة التوجيه
أهم شيء في التوجيه أن تكون أمينًا مع نفسك قبل الآخرين، لأنّ الجميع يبحث عمّن يقدم له التوجيه، ولذلك إذا عرضت خدماتك ستجد من يُقبِل عليها، أو هكذا هو الوضع الآن على الأقل.
فمن هنا لا بد وأن تكون لديك خبرات حقيقية لتشاركها مع الآخرين في تجربة التوجيه، لا أتحدث هنا عن المعرفة العميقة، لكن ضرورة وجود تجارب وخبرات فعلية. لأنّ التوجيه يتخطى المعلومات النظرية إلى التجارب العملية، وتوجيهك يعتمد على هذه الخبرات.
كذلك أدرك أنّ الشخص سيثق في رأيك، وقد يكون لما تقوله أثر حقيقي عليه، فأنت بحاجة لمعرفة أولًا كيف تقول رأيك بطريقة صحيحة وصادقة، وثانيًا ألّا تخدع الشخص أبدًا وتقول له شيء غير الحقيقة، وثالثًا افعل ذلك بالأسلوب المناسب.
أخيرًا، عندما لا تكون لديك الإجابة على سؤال ما، قل مباشرةً: لا أعرف، هذا خارج نطاق خبرتي، وغيرها من الردود. هذا لا يُنقِص منك شيئًا، بل يضيف لك قيمة تزيد من مكانتك.
2. أن تعرف دورك كموجّه!
التوجيه في جوهره ليس تدريبًا، فأنت لا تعلّم أحد شيئًا من البداية، وإذا كان هذا احتياج الشخص الأساسي، فالأفضل أن تخبره بالاشتراك في تدريب متخصص.
بالطبع قد تتضمن التجربة بعض الشروحات التعليمية، لكنها ليست الأساس أبدًا، فالتوجيه في جوهره هو إجابة على أسئلة الشخص ومساعدته على الانتقال من مرحلة لمرحلة بالدعم، مع ترك المجال له لأن يفعل ذلك بنفسه.
فالدور الأساس للموجّه -حسب ما أؤمن به- هو تقديم العون والإجابة على الأسئلة، والموجّه ليس شخصًا يفعل الأشياء بدلًا من الشخص، بل يسمح له بفرصة اكتشاف نفسه والتجربة.
3. منهجية العمل: كيف تدير عملية التوجيه؟
يحتاج الموجّه في عمله إلى منهجية عمل تساعده على إدارة عملية التوجيه، فالمسألة تحتاج إلى إطار تنظيمي يساعد على الخروج بنتائج حقيقية.
عندما بحثت في بداية عملي عن المنهجيات المختلفة التي تستخدم في الاستشارات أو في الإرشاد والتوجيه، وجدت العديد من النماذج الأجنبية، مثل نموذج GROW. لكن لم أجد شيئًا يلائم احتياجاتي في التجربة.
من هنا قررت تطوير نموذج خاص بي، بالطبع ليس ضروريًا استخدام هذا النموذج في عملك، لكن الأهم وجود منهجية خاصة تساعدك على ذلك.
منهجيتي هي الـ8م، سأطرحها غدًا إن شاء الله. انتظرني.
4. طرح الأسئلة: أداتك لتقديم توجيه احترافي
من يعرفني جيدًا، يعرف أنّ ردي الأول على أي حديث هو طرح مجموعة متنوعة من الأسئلة. ببساطة الأسئلة هي مفتاح التوجيه الاحترافي، وأداة الفهم، غلى جانب أنّها الوسيلة التي تساعد الشخص على اكتشاف ذاته.
يمكننا تقسيم الأسئلة إلى نوعين أساسيين: الأسئلة المغلقة؛ التي غالبًا تكون إجابتها ما بين نعم أو لا، صح أو خطأ، الاختيار من متعدد. والأسئلة المفتوحة؛ وهي الأهم بالنسبة لنا، فهي الوسيلة الأساسية للفهم، لأنّها تفتح المجال للتفاصيل والتعمق في الحديث.
دعني ألخّص لك أهم أنواع الأسئلة المفتوحة التي نستخدمها:
- أسئلة المعرفة
وهي الأسئلة التي تساعدك على فهم الموضوع جيدًا، ببساطة تُستخدم فيها كل أدوات الاستفهام التي نعرفها: من – ماذا – متى – لماذا – أين – كيف. بالطبع يعتمد ذلك على احتياج الموضوع.
- أسئلة التحليل والتتبع
وهي الأسئلة التي تساعدك على تجزئة الموضوع لنقاط أصغر، وهي مهمة لأنّها تساعدك على فهم الموضوع، وكذلك تمكن الشخص من التركيز على أجزاء صغيرة سقطت منه. اطرح الأسئلة التي تريدها، حتى تشعر أنّك وصلت إلى نهاية النقطة.
- أسئلة الأدلة
وهي الأسئلة التي تساعدك على الوصول إلى الحقائق بعيدًا عن الآراء الشخصية، ومهم أن تركّز فيها على مساعدة الشخص للتخلّص من افتراضاته وتفسيراته الشخصية، وبدلًا من ذلك التركيز على اكتشاف الحقيقة فقط. كأن تطرح سؤالًا مثل: ما هي الحجج الموجودة التي تدعم هذا الرأي؟ ما هي الأدلة التي استندت عليها في بناء هذا الرأي؟ ما الذي حدث بالضبط وجعلك تقول ذلك؟
- أسئلة التوضيح
وهي الأسئلة التي تساعدك على فهم الموضوع بصورة أدق، كأن تطرح سؤالًا مثل: ما هو المثال على ما تقصده؟ هل يمكنك شرح الموضوع بطريقة أخرى؟
- أسئلة الربط أو الإضافة
وهي الأسئلة التي تساعدك على الربط بين الموضوعات المختلفة، وهي مهمة لتربط بين كلام الشخص، وتضعه دائمًا في سياق واحد كلما أمكن ذلك. كأن تطرح سؤالًا مثل: ما هو الرابط بين هذا الموضوع وما تحدثت فيه منذ قليل؟ كيف ترتبط هذه الفكرة مع هدفك الأكبر؟
- أسئلة التلخيص أو التركيب
وهي الأسئلة التي تساعدك على تلخيص نتائج الحديث، والربط مع ما قد يحدث لاحقًا. كأن تطرح سؤالًا مثل: ما هي الفكرة التي خرجت بها من اليوم؟ ما هي الأشياء التي تحتاج إلى البحث عنها لاحقًا؟
- أسئلة التقييم
وهي الأسئلة التي تساعدك على تقييم أي حديث وتحديد التغييرات التي تمت لدى الشخص، موضوع تقرأه أو نقاش تخوضه لتقيّم أفكارك وتحدد التغيير الذي حدث بها، كأن تطرح سؤالًا مثل: ما هي الأفكار التي تغيّرت بعد ما تحدثنا به؟ ما هي الافتراضات التي كنت تملكها عن الموضوع وتأكدت/تغيرت؟
تتشابه أسئلة التلخيص مع أسئلة التقييم بدرجة كبيرة، غير أنّ أسئلة التقييم تكون تخصصية وعميقة أكثر، فهدفها يتجاوز التلخيص إلى الفهم العميق للتغيرات، فقد تكون هناك أسئلة أكثر في التقييم، بينما في التلخيص قد يكون سؤال واحد.
كيف تتعامل مع صنّاع المحتوى في التجربة؟
في هذا الجزء دعني أشاركك بعض النصائح في التعامل مع صنّاع المحتوى، وهذه النصائح هي محصلة ما تعلمته من التجربة، وهي جزء أساسي من رحلة التوجيه:
1. تأكد من أنّك تفهم دورك، والشخص كذلك يفهم دوره. إذا لم يحدث ذلك لن تكون عملية التوجيه ناجحة، حتى إذا شعر الشخص بالرضا عن اللقاء والتجربة. في بداية لقاءات التوجيه أوضّح هذا الأمر تفصيلًا لصنّاع المحتوى، أخبرهم ماذا يتوقعون منها وماذا سأقدم لهم بالتحديد، وأتأكد من استيعابهم لأدوار كلينا.
2. لا تفترض شيئًا في عملية التوجيه، اسأل عن كل شيء لتفهم وتوجّه بناءً على ذلك.
3. لا تحاول أن تصنع شخصًا يشبهك، تحدث عن تجاربك ونصائحك لا مشكلة، بل هذا شيء جيد فعلًا، لكن أتِح المساحة للتجربة الخاصة، واجعل توجيهك مركّز في إطار هذه التجربة. بل وأخبر الشخص ألّا يحاكي ما تفعله أنت، وأكّد دائمًا على أنّ هذه تجربتك، ولكلٍ منا تجربته الخاصة.
4. حدد أسلوب التواصل المناسب في التجربة، ولا تجعل عملية التواصل مرهقة لك أو للشخص. بالنسبة لي كنت أفضل التواصل بصفة عامة على واتساب، واللقاءات الفعلية على زووم. وحاول قدر الإمكان الالتزام بالمواعيد التي تتفقان عليها، وعوّد الشخص على ضرورة فعل ذلك، حتى لا تطول الفترة دون داعي لذلك، ما يؤثر على جودة التجربة.
5. حافظ على مسافة بينك وبين الشخص في التجربة، وهذا يعني ألّا تُقحم نفسك شعوريًا مع الشخص لدرجة مبالغ بها، لأنّ نتيجة ذلك ستجد أنّك منهك من التجربة وغير قادر على الاستمرار. هذا لا يلغي التعاطف أبدًا وتقدير ما يمر به الشخص، لكن فقط يضع كل شيء في سياقه الصحيح.
6. لا تكن سببًا في تراجع الشخص بدلًا من تقدمه، أنت لا تحاول إثبات ذاتك ولا تميزك من خلاله، فالشخص هو محور التجربة لا أنت، وكذلك لا تفعل له كل شيء، دعه يتعلم ويجرّب ويرتكب أخطائه الشخصية.
7. صمم تجربة التوجيه لتركّز على الشخص. بالنسبة لي كنت أنظم كل عملية توجيه بما يلائم الشخص فقط، وهذا يتضمن تحديد موضوعات النقاش في الجلسات، والمهام التي أطلبها من كل شخص بما يناسبه. هذا جعلني أحظى بـ23 عملية توجيه مختلفة تمامًا.
8. قدم الدعم المستمر دائمًا للشخص، وأدرك أنّه يثق بك وبرأيك، وهذا الدعم يتضمن التشجيع والتقويم معًا. اعرف متى تستخدم كل شيء في الوقت المناسب، ولا تتردد في إظهار تشجيعك وتقديرك له أبدًا. كل كلمة تقولها مهمة.
9. الصبر. الصبر. الصبر. هذه النصيحة الأهم بالنسبة لي، ولا تؤتي العملية ثمارها من المرة الأولى، فإذا انتظرت نتائج سريعة سترهق نفسك وسترهق الشخص، التغيير يتطلب وقتًا كبيرًا يستغرق شهور أحيانًا، فلا تتعجل ولا تجعل الشخص يتعجل أي شيء.
10. استخدم نموذج الـ8م سيساعدك كثيرًا في الرحلة. لكن ليس شرطًا أن تخبر الشخص بالنموذج، بل اجعل الأمر يبدو طبيعيًا فهذا يضيف سلاسة إلى التجربة.
أخيرًا، أنا سعيد كثيرًا برحلة التوجيه وهي بالنسبة لي من أكثر الإنجازات المهنية التي أفتخر بها، لأن كل شيء يرتبط مع تغيير الإنسان هو هدفي الأهم. وأتمنى أن تكون قد استمتعت واستفدت من التجربة.
كن أول من يعلق على المقالة