تجاوز المحتوى

أنا مش كفاية I’m not good enough!

بالتأكيد قلت لنفسك هذه الجملة في مرحلة ما من رحلتك، بل سأجازف بالرهان أن 9 من كل 10 سيقرأوا هذه التدوينة يشعرون بهذا الآن، هذا إن كان هناك 10 أشخاص سيقرأون التدوينة فعلًا.

وأنا لا أستمتع باللعب بالأرقام ولا المبالغة في الإحصائيات، فهذه الجملة الأكثر شيوعًا من صناع المحتوى، أقرأها في منشوراتهم، وأستمع إليها في الاستشارات أو لقاءات التوجيه، تسيطر عليهم وتتحكم في عقولهم، وتجعل نسبة كبيرة منهم في حالة من عدم الرضا المستمر عن الذات.

لكنني هنا اليوم لأخبرك الحقيقة من وجهة نظري، هذه الجملة هي واحدة من أكبر الكذبات التي نخبرها لأنفسنا، ولهذا أسباب عدة سأشاركك بها فيما هو قادم.

أولًا: لماذا نعمل في المجال الإبداعي؟

إذا توقفت قليلًا للتساؤل عن أسباب عملنا في المجال الإبداعي، ستكتشف أن من أكبر الأسباب وراء ذلك لدى الكثيرين منّا، هو الرغبة في الابتعاد عن الأعمال الروتينية التقليدية، والعمل في مجال يتيح لنا الفرصة للإبداع والابتكار باستمرار.

وهذا نمط المجال الإبداعي، العمل في مشروعات جديدة دائمًا، وفرص لا نهائية للتعلم والتطور، مرة تعمل في صناعات جديدة، وأحيانًا تختبر نفسك في أسواق لم تعرف أنها موجودة قبل ذلك، وتارة تشتبك مع أنواع محتوى لم تكتبها سابقًا، ناهيك بالطبع عن كون كل عميل تحدي قائم بذاته، ومعه تخوض تجارب متنوعة.

أي أن صفة المجال هي وجود مساحات متجددة دائمًا، وهذا يخلق لك فرصة العمل في تجارب متنوعة باستمرار، والطبيعي أن تكون هناك تحديات ناتجة عن ذلك وأمور أنت لا تعرفها، والفيصل هنا يتعلق أكثر بالمنظور.

أنت تركز على المشاعر السيئة التي تنتج عن ذلك، فتفسر الأمر بكونك لست جيدًا بما فيه الكفاية، وغيرك يركز على المشاعر الإيجابية التي تنتج عن ذلك، هي وجود فرص يومية للتعلم والتطور.

ثانيًا: ماذا تفعل عندما تشعر أنك «جيد بما فيه الكفاية»؟

دعني أسألك: ماذا تفعل في عملك عندما تشعر أنك جيد بما فيه الكفاية، وأتقنت العمل تمامًا، ولا توجد مساحات جديدة تشعرك بأن هناك ما لا تعرفه؟

لا أعرف ماذا ستفعل أنت تحديدًا، لكن ما رأيته من التجربة هو أن العديد من صناع المحتوى يتجهون في هذه الحالة إلى الاستقالة من عملهم، وإذا سألتهم لماذا يفعلون ذلك، يقولون أنهم حققوا ما يريدونه هنا ولا يوجد شيء جديد لعمله، وهم الآن يبحثون عن تحديات جديدة.

أي يا صديقي يذهبون بأنفسهم إلى أن يصبحوا غير جيدين بما فيه الكفاية! والحقيقة لا أحد يحب المشاعر السيئة، لكن هذا هو المنطقي في رأيي، فهذا جزء من مجالنا ألا يكون مجرد عمل متكرر وروتيني.

بالمناسبة لا مشكلة فيمن يستمر بالعمل حتى وهو لا يفعل شيئًا جديدًا، أو حتى يقرر ترك المجال كله ويذهب لمجال آخر روتيني تمامًا، طالما هذا اختياره الواعي، وهو لا يرغب في العيش مع المشاعر السيئة التي يشعر بها، ولا يهتم بمسألة التعلم والتطور باستمرار.

الفكرة هنا في الوعي الذاتي بالمسألة، وأن يعيش كل شخصٍ مع اختياره، ويتفهم ما يترتب عليه من مميزات وعيوب، ويوازن بين النظر إلى الاثنين، يستمتع بالمميزات ويستغلها لأقصى درجة ممكنة، ويتقبل العيوب ويحاول التعايش معها.

ثالثًا: من الذي يرغب في أن تشعر بأنك «مش كفاية»؟

في عالم اليوم تُمجّد ثقافة العمل الشاق، وهي الثقافة التي تشجع العمل الدائم نحو تحقيق النجاحات، أيًا تكن التضحيات والتكاليف المترتبة على ذلك. وبالطبع جزء أصيل في هذه الثقافة هو الضغط المستمر في العمل لتحقيق الإنجازات.

بالتالي مع وتيرة العمل المتسارعة، تجد أن اللوم موجه لك دائمًا لأنك لا تؤدي عملك بالصورة المطلوبة، حتى وإن لم يكن ذلك منطقيًا على الإطلاق، فالطبيعي أن هناك تحديات جديدة في عملنا تحتاج إلى وقت للتعامل معها.

 لكن بالطبع عندما تشعر بأنك «مش كفاية»، لن تتوقف لتقول بأن هذا غير منطقي، وأنك تحتاج إلى وقت لتتعلم، لن ترى أن هذا حقك، وستفترض أن المشكلة عندك وفي مهاراتك، وستحاول تنفيذ المطلوب بالتأكيد. وهكذا تستمر هذه الدوامة في العمل.

رابعًا وأخيرًا: ما الذي تعنيه «الكفاية» أصلًا؟

وهذا في رأيي التساؤل الأصلي الذي نحتاج لأن نطرحه على أنفسنا من البداية، فقبل ترك مشاعر معينة لتتحكم بنا، لا بد وأن نسأل نفسنا عن المعنى الحقيقي للكفاية.

ما يحدث هو أننا نضع تصورات خيالية لمعنى الكفاية، ونحاكم أنفسنا في إطار ذلك! كيف لم نولد ونحن نؤدي جميع مهام عملنا بكفاءة؟ ولماذا لا نتعلم أي شيء جديد في ساعة واحدة؟ وغيرها من سلسلة الأفكار غير المنطقية التي تؤثر علينا.

في الحقيقة يا صديقي أنت بحاجة إلى إعادة التفكير في معنى الكفاية، وسأشاركك تجربتي التي ساعدتني على فعل ذلك، ومكنتني من تجاوز المشاعر السلبية حتى توصلت إلى المنظور الإيجابي حول الأمر، وأتمنى تساعدك أنت أيضًا. سأشاركها معك على هيئة 5 نصائح:

1. تذكر الحقيقة البديهية؛ أنت بشر لست آلة، وهذا يعني أن كل شيء يحتاج إلى وقت، فلا تحاكم نفسك وتقسو عليها دون داعٍ لذلك.

2. توقف عن محاولة أن تكون جيدًا في كل شيء بصفة عامة، وتوقف عن محاولة فعل ذلك بين يوم وليلة إذا قررت، فالأمر يحتاج إلى محاولات مستمرة دائمًا.

3. شعورك بعدم الكفاية لن يصنع فارقًا في شيء، هو فقط سيعمق المشكلة ويزيد من ضررها عليك دون أي تغيير. بدلًا من ذلك فكر فيما يمكنك فعله هنا والآن.

4. ركز أكثر على نقاط قوتك واستثمارها في عملك، فنقاط قوتك هي ما تبيعه بالأساس، وكلما كانت قوية ساعدك ذلك بدرجة لن تتوقعها، وستدرك حينها أنك لا تحتاج بالضرورة للتميز في كل شيء.

5. حاول تقليل عيوبك، لكن لا تفكر في أنك ستمحوها، ستظل دائمًا هناك عيوب موجودة، وهذا جزء من الحقيقة البديهية التي ذكرتها في أول نقطة.

أخيرًا يا صديقي، هذه ليست دعوة لتجاهل مشاعرك، ولكنها محاولة لوضعها في سياق صحيح، يسمح لك بعيش حياة طبيعية، وتساعدك على رؤية منظور آخر للأمور، وأتمنى حدوث ذلك فعلًا حتى ولو بعد فترة من الوقت.

Published inالبوصلة
© معاذ يوسف 2025